وجد نفسه في مساحة مظلمة. عوّدتْه حواسّه على استكشاف الأمكنة الجديدة التي غالباً ما تقوده إليها قدماه. عيناه الداكنتان المؤطّرتان بأرياش تسبل كطير منقض، راحتا تمخران ظلاماً كثيفاً، فيرتدّ بصره حسيراً، مرتطماً بحجارة بليدة. رائحة الدخان المنبعث من فوق الطاولات المستديرة تلاشت، واستقرت رائحة نتنة، كأنها لفأر ميّت أو لجرذ فاطس.
مدّ يده غير وجل. أصابعه تتلمس أرضاً لزجة، ينكمش جلده قليلاً. يتريث. يسوّي جلسته. يمطّ رأسه. يصيخ السمع. السكون مطبق، وقاتلُهُ - كما يرى ? إما دوي رعد، أو صوت ارتطام حبات المطر على الأرصفة الملساء.
« أليس المشي تحت المطر هوايته المفضلة، وأحبّ الأشياء إلى نفسه؟!» .
أراد أن يتذكر جملته المشهورة فـي مثل هـذه الحالات... اضطربت الصورة، واختنق صدى الكلمات في الأغوار.
ترى هل هو في حالة من هذيان محموم، أم نسيان مزعوم؟!!
التفكير لديه في هذه اللحظة غير مستقر، عطل كهربائي، جزئي أو كامل، لا يدري كم هو حجمه، يخيم في دارات مخّه المولّد دائماً لشحنات كانت آنذاك تضيء له كثيراً من الزوايا المتفحمة.
ترى ماذا يصنع! أوصاله جامدة كالصقيع. شعر أنه فاقد الوزن، يسبح في فضاء سحيق. يضرب الأرض بحذائه العالق بالكتل اللزجة. لم يسمع شيئاً! تكاد الأرض تميد به. لابد من القيام بعمل ما على الفور. لابد أن يضع قدميه على أرض صلبة. أليس الأجدر به أن يقف منتصباً، ويعرف حق اليقين إن كان باستطاعته الوقوف أم لا؟!
خيبة أمل فظيعة تومئ إليه بهاتف خفي، إنك بلا قدمين!
رباه! وكيف ذلك؟ وقبل لحظات ضربت الأرض هنا. الأفضل له قبل كل شيء أن يتحسس أعضاءه. بعد محاولات مريرة يقنع نفسه أنه كسنبلة فقدت حباتها، تنتصب متباهية في أرض جرداء لا حدود لها. أتُراه يستطيع أن يتحرك شبراً واحداً؟! سُرّ لمحاولته الأولى. ولكنه لم يدر أهو المتحرك وما تحته ساكن، أم العكس هو الصحيح؟! لم يرهق تفكيره طويلاً. لقد عزم النيّة على المضي في هذا المشوار المجهول.
للفضول لديه نكهة مقدسة تقتضي قرباناً وتضحية. لعل المغامرة في عروقه وجدت منفذاً كخرم إبرة عبرت من خلاله.
الطبقة الظلامية اختلفت شدتها وسماكتها نوعا ما أمام عينيه.
بسط ذراعيه بسطاً عرضانياً، فلمستا جدارين أملسين. الطريق قبالته أشبه بممر يقود إلى جهة ما. اللزوجة تحت قدميه تزداد حدّة. يلتصق الكعبان بقوة كلما حصل التناوب. يكرر مدّ الذراعين. ينظر إلى السواد. لا يسمع شيئاً!
ما هذا الصمت؟ أما من أحد؟! أما من باب مفتوح؟! أليس هناك مبعث نور؟! أين أنا يا ترى؟! أخشى الانزلاق في هوة ما!! يضحك في سرّه. يتابع سيره.خطوات ثقيلة، رتيبة.
شعور فاقد الوزن يتراقص في طيات سواد سرمدي. يمتزج اللون القاتم بلون ظله الشاحب. عيناه تحاولان اختراق الأفق. والأفق ما ينفك سراباً.
« أي أفق كنت أسعى إليه؟!» . أسرّها في نفسه. يمضي قُدماً......
رائحة رغيف محمّص تداعب فتحتي أنفه. يقذف به متلجلجاً. ينتشي للسعات تنّور يستعر. يرتمي فـي
ترعة كعاشق. يُقبّل ثغر فجر ذهبي. ينظر خلسة إلى عصافير تلهو خلف شجيرات خضراء. يغمس كفه عميقاً بين قطع خبز مشبّع بالدسم. تتّسع أحداق. وتنتفخ أوداج. ضحكات عريضة تملأ فسحات. شموع معلقة على شرفات. يمضي في ردهات.
قلب يخفق. ونبض يضطرب.
عصافير مسجّاة في مزبلة تنهشها غربان غبر. كسرات خبز عفن مُشبع بالزيت الأسود. يزفر ثم يشهق. يلتقط أنفاسه. يتابع سيره. يضيق دربه رويداً، رويداً. يحاول بسط ذراعيه. لكن دون جدوى! يسير مكتوفاً. رأسه يحتك بشيء خشن مدبب. يخفض رأسه قليلاً. يشعر بالاحتباس كلما تقدم شبراً.
يخفض جذعه..
يركع..
يسجد..
يحبو..
يزحف..
جسمه ما برح محشوراً. والسواد من حوله ميسوراً.. والسير نحو الأمام محظوراً.
يتوسد وجهه أرضاً رطبة، لزجة. تستقر إحدى عينيه على فتحة صغيرة جداً. ترمش أهدابه. يحدّق في النور. شعاع ينكسر. تنكشف فسحة تعجّ بورود وأقاح. وبسـاط أخضـر مديد. وعيون شتى تترقب. وعين تلفظ دمعة سخية حارة. تسقط متألقة من الفتحة المتناهية في الصغر.
صالح عبد القادر
موضوع: الدهليز 
الثلاثاء أغسطس 17, 2010 12:55 pm
