صمت موحش يجثم على أخاديد الرمال المترامية أمام ناظريهما بلا انتهاء ، تزاحمت فلول ذئاب الوحشة تعوى بشعاب روحيهما، فى محاولة فاشلة للنجاة من فتكها، أسلم الشاب جواده للركض ، بينما تركض غربان مخيلة أبيه فوق مروج من أشواك ماض، تجتاحه رائحة أيامه العفنة ، مشبعة بالبرودة ومذاق المرارة
حاصرت الحيرة رأس الشاب، سد غبار عصفها عينيه اللامعتين، من بين متاهاتها صدمه وجه زوجته تخيره فى قسوة ،وجحود لايليقان بفتنة جمالها ،وأعراف بداوتها: اما أنا أو أبوك
ألقمته الشهوة ضعفاً ، حاول الشاب منازعة عتمته ، كما ينازع أبوه خلفه على صهوة الجواد متشبثاً بقائه ، كلما دفعه الأمل فى استفاقة ابن أصغى لغربان ضعف عششت فى أركان روحه الحائرة، الغائرة فى أوحال فتنة جمال امرأة انتقاها لإبنه بنفسه ذات يوم من بين بنات القبيلة
بعينين زائغتين مطفأتين، أخذ الأب يرقب سرب الغربان المحلقة ، جذب الإبن لجام جواده ، أفاق الأب من إغفاءته على توقف الجواد ، فتوقفت أنفاسه الحبيسة داخل تابوت روحه ، ترجل الشاب، وفى قسوة أشار إلى أبيه بالنزول
وجوم يطبق فوق أنفاس اللحظة ، لم تشفع للأب نظرات انكساره المصوبة فى رجاء مكفن بالعجزإلى عينى ابنه ،أشاح الشاب بوجهه فى جحود ، أغمض الأب عينيه فى أسى ، فجأة رج صهيل الجواد سكون الرحابة ، واصل سرب الغربان نعيقه ، فى تثاقل فتح الأب عينيه المطفأتين، حدق فى وجه الماضى الماثل أمام ناظريه، وفى اشفاق على ابنه من قسوة لحظة لم ينتظرها، هاهو يتجرع كأس مرارتها ، وغدا ربما...ا
عاد يصب نظرات المتوسلة إلى عينى ابنه ، لم يعرها الإبن اهتماماً ، شائحاً بوجهه ينظر الى اللاشىء ،عبر فضاءات تيه الرحابة الذى يبعث صمتها إلى نفسه الوحشة ،رجاه أبوه منكسراً أن يواصلا سيرهما قليلا ً ،امتثل الإبن ، حين لاح فى أفق وحشته شبح شجرة السدر ، رجاه أباه بالتوقف ، أنزله الإبن فى تردد لايخلو من وجع ، مالبث أن أفاق من دوامات عصفه ، فاطلق العنان لجواده عائداً أدراجه، بينما يتعثر الأب فى عتمة ماضيه
بعينين أثقلهما الندم ،ركن إلى جذع شجرة السدر برهة،ضجت رأسه بطبول صمت موحش،وفى محاوله يائسة لإنتزاع بقايا روحه من وحل ماض يحدق إلى عينيه فى جرأة ،أخذ يحبو على ركبتيه الخائرتين ، دهمته رجفة ،ألقت به فى أوحال دموعه ، فانكب ينبش بأصابع مرتعشة التراب فى لاوعى ، عسى أن يشم نسمة من رائحة أبيه القديمة