انسرب العمر بين أصابعك كالماء، وسقط حبله من بين يديك، وتناثرت أيامه على طرق تلتمع اليوم في عينيك كشهب انطفأت بين المجرات وعجلت بالغياب، تلتفت إلى الوراء
وتنعش ذاكرتك لتقرأ علامات تلك الرحلة التي افتتحت خطوتها الأولى قبل ستة وستين عاماً دون أن تختار، ثم سلكت سبلها سنة إثر سنة، بعينين مفتوحتين على الدهشة والاكتشاف، وقلب أبيض يتطهر كل صباح بينابيع الحب المتدفقة في شريانه الأبهر، وعقل ينوس بين الشك واليقين في دنيا النقائض التي تعصف بوجودنا، لكنك لا تعثر خلف ظهرك إلا على منارات مطفأة كنت تحسبها في صباك أقوى من الريح والمطر، قابلة لحياة لا تنتهي، بتقلب الفصول على سواحل العمر!
لا رويت ولا ارتويت، تلك هي تراجيديا البشر في كل زمان ومكان، وتلك هي الحلقة المفقودة التي ندور في فلكها عمراً بأكمله دون أن نكتشف واحداً من مجاهيلها، مهما طار بنا الخيال، ومهما أسعفتنا منجزات العلوم الحديثة، فالرحلة التي دشنتها دون أن تختار ستصادف نهايتها دون أن تختار، وفق قانون طبيعي لا يرحم، عمره بعمر النشأة البشرية دون أن يطرأ أي تعديل على أي تفصيل فيه وبين هذين الحدين الصارمين من الولادة إلى الغياب، من أين لك أن تروي كل مازرعته في حقول عمرك، وترعى شجره، وتتذوق فاكهته، وتحمي أغصانه من اليباس، ومن أين لك أن ترتوي من كوثر الحياة الدافق في جنبات الأرض، وفي قطراته كل صباح مذاق جديد، وعناوين جديدة للينابيع التي لم يرشح ماؤها بعد فوق الحصى والتراب!
لا تستطيع اليوم أن تحصي ما أحببت وما كرهت، ولا تستطيع أن تعترف بكل ما عرفت دون سواك، أو تصف اللعبة التي آثرت الجري خلفها في ملعب الزمن، كل تلك السنين التي ارتحلت خلف ظهرك كالغمام الأبيض ولا تستطيع أن تستحضر فرحك القديم الذابل اليوم في عينيك وحزنك القديم الذي يشعل ذاكرتك كالجمر المتجدد، لكن ما تستطيعه هو أن تعترف أنك أتقنت حبك وغسلت به ندوب كرهك، واحتفيت بما عرفته بمفردك وانشغلت به عن الأبواب التي أوصدها المجهول في وجهك ولعبت لعبتك دون شروط دون حسابات باردة للربح والخسارة ونسجت فرحك من شوك الصبار، كي لا يعطبك الحزن حين يستوطن قلبك ويعتكر به دمك في ليالي الألم والحسرة!.
ربما تكون اليوم قد ألفت الحكمة في هذه التراجيديا الإنسانية، دون أن تفك ألغازها، وربما تكون قد تصالحت مع هذا الخريف الذي يحيط بك من كل الجهات، وألقيت تحيتك على الأوراق التي تساقطت والنباتات التي اصفرت والغيوم التي ظللت نهاراتك بوشاحها الرمادي الداكن، وربما تكون قد آنست غبش الرؤية الذي تحط طيوره على عينيك، وخطوط الزمن التي ترتسم على جبهتك كغصون الحور اليابسة، وضجيج النبض في قلبك وهو يسترجع مراراته الخالية وانتعاشه ذات صباح وهو يحتضن ألق الحياة، وربما تكون قد استيقظت من أحلامك المشغولة بأجنحة الفراشات، وصحوت على حقائق الكون المطلقة التي تعترض الأحلام على أول مفرق سماء، وتنثرها كغبار في الفضاء!.
اليوم، يومك الأول من السابعة والستين، فأطلق خطاك بعافية لم تستنفد كل رصيدها بعد، واجمع كل أوهامك في صرة من الحرير وارمها من النافذة، وتسلح للآتي بالوقائع التي لم يتسرّب إليها الخيال، ولا يمكن تبديلها بمعايير العقل، واكتب ما لم تكتبه من قبل واغسل ذاكرتك من حطام الأمال الكبرى التي سقطت في أوحال السنين الغابرة فكل شيء يبدو الآن عارياً في بصرك وبصيرتك، لن تطرزه الآمال بالورود مرة أخرى، فاتركه عارياً وامض مع هذه الريح التي يتواصل عصفها إلى زمن لم يحن أوانه بعد، تكشف فيه الطبيعة عن أسرارها المستجدة، قبل أن يعم الخراب، وتنغلق عليك كل الطرق!.
سهيل إبراهيم
موضوع: مونولوج العمر الغابر! 
الأربعاء سبتمبر 08, 2010 10:33 am
