تعرف الحضارة بأنها كل ما ينتجه عقل الإنسان من علوم وفنون وآداب وفلسفة وتشريعات وقدرة هذا الإنسان على الاستفادة من هذه الحصيلة ومن تطبيقات العلوم خيراً وإشعاعاً له ولمن حوله لمجتمعه وللإنسانية جمعاء .
رغم أن الغرب كان لا يزال يعتمد الخرافة والتنجيم إلى عهد كوبرنيكوس وجاليليو كان هذا الغرب قد بدأ يتلمس حواف عصر العقل ورغم أن الخرافة باقية أبد الدهر وسعداء الحظ هم الذين يحتملون العيش بدون أساطير كان أفضل عقار مسكن في الطبيعة هو جرعة مما هو فوق الطبيعة .
كان الناس الذين يطلبون التعاويذ أول من طالب بمحاكمة السحرة وتم ذلك بموجات من اضطهاد السحرة في كل أنحاء أوروبا "حمى قتل السحرة" وخفت هذه الحمى مع انتشار الطبابة وكثرة الكتب والمدارس والجامعات وارتفاع بناء العلم والمعرفة وبداية ظهور الصحف ومنذ عام 1505 ح كانت صحيفة أو نشرة الأخبار قد بدأت تطبع في ألمانيا ولم يمض قرن من الزمن حتى كان هناك أكثر من ثمانمئة نشرة من هذا النوع .
ووضعت خطط النهوض بالتعليم من قبل جون كومينوس الذي كتب مبادئه في التربية المثلى حيث أوضح بأن التعليم يجب أن يكون عاما بصرف النظر عن مستوى معيشة الناس .
ففي كل قرية يجب أن تكون مدرسة وفي كل مدينة كلية وفي كل محافظة جامعة ويجب أن تتولى الدولة بناء الإنسان والكشف عن مواهب وقدرات المواطنين والإفادة منها .
وأن التعليم يجب أن يكون واقعياً بحيث تربط الأفكار في كل خطوة بالأشياء الملموسة وأن تكون التربية بدنية وعقلية وأخلاقية .
وأنه ينبغي أن يكون التعليم عملياً مقروناً بالعمل والممارسة وأن يمهد ويعد للنهوض بمهمة الحياة وأن تدرس العلوم تدريجياً وتفتتح مدارس للبحث العلمي في كل مدينة أو محافظة .
وأن توجه كل التربية وكل المعرفة إلى تحسين الخلق وبث الانضباط في الفرد وإشاعة النظام والسعادة في الدولة .
وفعلاً طبقت هذه المبادئ في ألمانيا أولاً ثم في كل أوروبا مما أدى إلى نهوض عظيم في أدوات العلم ومناهجه وأصبح العلم لا يتقبل إلا ما يمكن قياسه كماً والتعبير عنه رياضياً وإثباته بالتجربة فاندفعت العلوم خطوات إلى الأمام في تسلسل منطقي خلال التاريخ الحديث كالرياضيات والفيزياء في القرن السابع عشر والكيمياء في القرن الثامن عشر والبيولوجيا في القرن التاسع عشر وعلم النفس في القرن العشرين وتم اختراع أدوات العلم كالميكروسكوب عام 1590 من قبل جانس والتلسكوب بنسخته الأكيدة من قبل شينر عام 1617 والترمومتر لقياس الحرارة عام 1603 والبارومتر عام 1643
وتم تعبيد الطريق أمام ليبنتز ونيوتن لإعادة اكتشاف التكامل والتفاضل وأوضح جاليليو (أن سفر الكون الضخم مكتوب بلغة الرياضيات) وتطلع ديكارت وسبينوزا إلى تحويل الميتافيزيقا نفسها إلى لغة رياضية وبدأ العلم يحرر نفسه من أغلال أمه (الفلسفة) متجهاً نحو الطبيعة مطوراً وسائل التمييز لديه معتمداً على العقل وعلى التجريب والابتكار وتطورت العلوم كافة لتحقيق مستقبل أفضل للبشرية .
وبافتتاح عصر العقل في أوروبا بعلماء وفلاسفة وأدباء كبار ككوبرنيكوس وغاليليو وكبلر وبيكون وديكارت وشكسبير كان العصر مؤذناً بولادة حضارة تؤسس لدولية العلم والإقلال من الخرافة والخوف وأنسنة المخترعات وتقاسم نتاجات المكتشفات العلمية .
ولكن ما حدث أنه في نفس الوقت رافقت تلك الأجواء المبهجة والمبشرة ولادة طبقة سياسية في الغرب نشأت على حب استغلال نتاج العلوم المختلفة في السيطرة والاستعمار فاستعمرت بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال أمريكا مستفيدة من تطور الأسلحة النارية والمدفعية لديها في احتلال واستيطان القارة الأمريكية والقضاء على حضارات زاهرة للسكان الأصليين كالازتيك والزابوتيك والمايا والأباتشي وسواها وقضت على عشرات الملايين من الهنود الحمر وتمت ولادة الولايات المتحدة الأمريكية كدولة تابعت نفس النهج الانكلوساكسوني خاصة والغرب عموماً في استغلال تطبيقات العلوم في الهيمنة والسيطرة على شعوب العالم فقامت خلال سنوات نشوئها القليلة باستعمار وذبح السكان الأصليين بحرب إبادة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً مسجلة بداية تفرد الرجل الأبيض بتسطير تاريخ القارة الجديدة ثم تابعت بالتوسع في كل الاتجاهات حتى وصلت مياه الأوقيانوس من جهة وبحر الظلمات من جهة أخرى ثم بدأت ترنو بنهم كما الغرب يفعل نحو بقية أرجاء العالم لتستعمر وبطرق شتى وقد سبقتها بريطانيا وفرنسا وهولندة وإسبانيا باستعمار غرب إفريقيا وجنوبها والهند وبلدان الشرق الأقصى عدا اليابان وتم نهب ثروات وكنوز هذه المستعمرات ليبدأ الرفاه المتمثل بوفرة الثروة الموجودة لدى الشعوب الغربية أضيف إليها الثورة الصناعية واستثمار تطبيقات العلوم وبدأت تتوضح لهذا الغرب الأطر الأساسية لرسم سياسة الهيمنة الدائمة على شعوب العالم مع دخول القرن العشرين عندما أصبحت "جرائم العلم" تظهر عياناً من خلال الأسلحة المختلفة في الحرب الأممية الكونية الأولى غير المسبوقة في التاريخ من حيث حجم الإبادة والقتل والتدمير تلا هذه الحرب صياغة فلسفات غربية تعزز الهيمنة كالانتداب والوصاية والحماية رغم أن البعض قد أراد أن يكفر عن جريمته في استخدام العلم التدمير كالعالم نوبل مخترع الديناميت الذي رصد جائزة سنوية كبرى لمن يقدم خدمات تعزز السلام وتطور العلوم لخدمة البشرية .
وما إن مضت سنوات قليلة حتى خاض الغرب ـ ضد نفسه ـ والعالم حرباً ضروساً عالمية ثانية بدأ فيها واضحاً استخدام المكتشفات العلمية والاختراعات ونتاجات كل العلوم التطبيقية في استنباط أسلحة مريعة للتدمير الشامل استخدمها الغرب بلا وازع من ضمير أو إحساس بالمسؤولية كان ذروتها باستخدام القنبلة الذرية في هيروشيما وناغازاكي .
واستغل الغرب المنتصر على بعضه وعلى غيره من دول المحور الوضع الجديد ليطبق فلسفة زرع الإسفين الدائم في كل مناطق العالم كبؤر توتر تبرر تدخله متى يشاء خصماً وحكماً وخص منطقتنا بزرع ذاك الكيان الصهيوني في الجسد العربي والذي خطط الغرب له منذ ما يقارب قرناً من الزمن وبدأ فصل جديد من الصراع بين ما يدعيه الغرب من حضارة القوة وبين قوة الحضارة العربية التليدة الضاربة في جذور التاريخ علماً وإنسانية فدخل العقل العربي والحياة الفكرية العربية بغيبوبة استمرت بضعة قرون من الزمان وعندما أخرج العقل العربي من العناية المشددة بعد منتصف القرن التاسع عشر بفضل مفكري الأمة وعلمائها والمخلصين من أبنائها من غرفة الإنعاش كان قد طال مكوثه فيها حتى الآن .
هذا العقل العربي الجبار الذي أسس لنهوض فكري عملاق مدهش وبنى حضارة سمت في عصر كان الغرب يغط في ظلمات العصور الوسطى ترهقه الخرافة والجهل والمرض بعيداً عن نور المعرفة والعلم تلمست يداه علوم العرب عبر بوابات إسبانيا وصقليا وإيطاليا وسواحل شرق المتوسط خلال حروب الفرنجة ونهل منها ما شاء له أن ينهل ولم يقفل في وجهه كتاباً أو سراً من أسرار العلوم ولم يعتبر أي علم من علوم ذاك العصر سراً يجب أن يقفل عليه الأبواب حضارة عريقة قوية مدت يدها للعالم عبر بوابات نور العلوم .
ما حدث أن عوامل عدة صعقت هذا العقل العربي فتجمد نتاجه من فكر وعلوم تحت وطأة سنابك الغزاة وسيطرة الجهل والخرافة عوامل ذاتها كانت تسود أوروبا المظلمة إبان العصور الوسطى (ورغم ذلك بقيت روح الأمة يستعر أوارها في صدور الخلص من أبنائها تمد هذا العقل بأسباب البقاء من خلال تراث حضاري ثر ضارب في جذور الزمن) .
الدكتور جمال حساني