الإنسان هذا الكريم على الله.. والذي خلق الله الكون وما فيه من اجله وسخره لخدمته..
هذا الإنسان لماذا يفرض عليه هذا الحرمان القاسي من طعامه وشرابه ولذاته- لمدة شهر-؟!!
الواقع إن فرض هذا الحرمان لم يكن تشهيا ولا اعتباطا فهو صادر عن جهة حكيمة لا تعرف العبث والتشهي، انه حرمان هادف نابع من صميم مصلحة الإنسان وخيره، وأقل ما نستطيع أن نصوره أنه كالحرمان الذي يفرضه الطبيب على مريضه ليس إلا ليودع المرض ويعانق الشفاء سريعا.
ونسجل هنا بعض النقاط التي يهدف إليها هذا التكليف الشاق:
ا- يعيش الإنسان طوال السنة يتقلب بين أطباق الطعام الشهي والشراب اللذيذ وفي أحضان الجنس الناعم، فتشغله لذة هذه النعم وتستولي على تفكيره، فيغفل عن ما خلفها من منعم متفضل وما تستلزمه من شكر متواصل...
فالإنسان قد لا يقدّر النعم مادامت متوفرة له وإنما يراها كشيء طبيعي ناله باستحقاقه لا فضل لأحد عليه به، ولكن إذا فقد إحدى النعم فحينئذ يشعر بقيمتها وبالفراغ الذي تركته، ومن هنا انطلقت الحكمة التي تقول: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى.
والصوم موعظة عملية يحرم فيها الإنسان من النعم التي تغمره طوال السنة ويحس بألم الحرمان.. فيشعر بقيمة تلك النعيم ويعرف قدرها، ويفكر في فضل المنعم عليه بها، فيتوجه إلى الله ويشكره على تلك النعم ويطلب إليه دوامها واستزادتها.
2- نظام الحياة يقتضي وجود التفاوت بين الناس اقتصاديا، فالناس ليسوا في مستوى واحد من الطاقات والقوى فمن الطبيعي أن يكون نصيب الأقوى من خيرات الكون أكثر من نصيب الضعيف.
ولو كان الناس كلهم في مستوى واحد لفقد التعاون والتفاعل بينهم لعمارة الحياة. فالعامل إذا كان مليونيرا فعلى ما يجهد نفسه في العمل، والكناس إذا كان ثريا فسوف لن يتنازل إلى مستوى الكناسة.. يقول القرآن الحكيم ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا4﴾.
ومن ناحية أخرى فإن الله خلق الحياة كمرحلة ابتلاء وامتحان للبشر، وتفاوت المستوى الاقتصادي شكل من أشكال الامتحان و ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ﴾5.
وإذا كان من الحكمة وجود هذا التفاوت الاقتصادي فليس من العدالة أن تستأثر فئة بخيرات الكون وثروات العالم وتتفرج على بقية الناس يعانون من ألم الفقر والحرمان!
فما هو العلاج الصحيح لهذه المشكلة الإنسانية؟
الحضارة المادية بلونيها الرأسمالي والاشتراكي أخفقت في حل هذه المشكلة وأثبت الواقع فشلها.
فالمذهب الرأسمالي يوسع شقة التفاوت بين الناس وينمي الطبقية البغيضة في المجتمع بما يتيح للأثرياء من حرية فردية تجعلهم يتفننون في امتصاص ثروات المجتمع..
وكذلك المذهب الاشتراكي الذي يغذي روح الفرقة والعداوة بين طبقتي المجتمع، فهو يغرس في قلوب الحمال الحقد والبغض على الطبقة الثرية ويحكم على الطبقة العاملة أن تعيش صراعا مستمرا ضد الطبقة الأخرى، وبالطبع لا تطيب نفوس الأثرياء أن تسلب منهم أموالهم بقوة وعنف!
بالإضافة إلى ما نتج عن هذين المذهبين من مضاعفات خطيرة لم تعد خافية على صعيد الواقع..
أما الإسلام وهو الدين السماوي الخالد فقد قدم للمشكلة علاجا إنساناً ناجحا حيث فرض للفقراء النصيب الوافر في أموال الأثرياء ووضع الطرق السليمة العادلة التي تضمن لهم حقوقهم.
وأول مرحلة يقوم بها الإسلام في هذا المجال هي: توليد التعاطف والتراحم بين الطبقتين واستعمل لذلك نوعين من الأسلوب:
أسلوب فكري: - ففي الآثار الإسلامية كتابا وسنة أحاديث كثيرة تحث على مراعاة الفقراء والمساكين وترغب في إنعاشهم ورفع مستواهم المعيشي..
وأسلوب عملي: - وذلك أن فرض على الإنسان فترة من الحرمان تذكره بتلك الأغلبية من الناس التي تعيش مثل هذه الحالة طوال حياتها.
فالإنسان في الصوم حينما يضنيه الظمأ ويزعجه الجوع وترتفع عنده درجة الحرارة الجنسية.. وحينما يحس بألم الحرمان وقساوته.. يفكر في حالة هؤلاء الفقراء والمساكين والذين يعيشون هذه الصعوبة والحرمان دائما وأبدا.
وحينما تتولد الرحمة وينشأ العطف فسيكونان بداية ناجحة لحياة تعاون ورفاه للطبقتين.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: " أما العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليحس الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه، فأراد الله عز وجل أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع ".
وسئل الإمام الحسين عليه السلام: "لِمَ افترض الله عز وجل على عبده الصوم؟ فقال عليه السلام: ليجد الغني مس الجوع فيعود بالفضل على المسكين ".
صوموا تصحوا
ليس تطفلا من الإسلام أن يعنى في تشريعاته بشؤون الجسم كما يعني بشؤون الروح.. وأن ترمز بعض أحكامه إلى الناحية الصحية لبدن الإنسان.. فهو الدين الذي أعلن من أول يوم أنه دين الدنيا والآخرة والمادة والروح، وليس كبقية الأديان التي كانت تصرح بتحيزها إلى أحد الجانبين على حساب الآخر..
الإسلام يؤمن بأن العقل السليم في الجسم السليم، وبأن الإنسان الذي تتوفر لديه الصحة والحيوية في جسمه بالإضافة إلى سلامة نحره وطهارة روحه.. هذا الإنسان يستطيع أن يقوم بدوره في الحياة خير قيام، وحينما يتحدث القرآن الكريم عن المؤهلات القيادية لطالوت عليه السلام يقول ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾.
لذا وضع الإسلام أحكامه الوقائية لتجعل الإنسان بعيدا عن متناول المرض والإصابة والوقاية خير من العلاج، فحظر على الإنسان المواد التي تعمل للفتك بصحته وإن كانت تبدأ بأسلوب خفي ضئيل لتتفاقم فيما بعد..
فحرم الميتة والدم ولحم الخنزير والنجاسات والمسكرات ولبس الذهب والحرير (بالنسبة للرجال)..
ولكن ليست المواد الضارة هي المصادر الوحيدة للأمراض! فحتى المواد النافعة قد تسبب للإنسان أمراضا خطيرة! وذلك حينما يفقد التوازن في تناولها.
فأكثر الأمراض يكون سببها هو فقدان الاعتدال في الأكل والشرب والجنس. يقول أحد الأطباء: " إن معظم الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم "، وقام بعض الأطباء بدراسة دقيقة حول الإنسان المعاصر وأسلوب التغذية وصرح بعده: " بأن الناس يأكلون ثلاثة أضعاف حاجتهم وهم بذلك يجلبون الأمراض لأنفسهم ".
فكيف يخطط الإسلام للوقاية من هذا المرض الخطير؟
إنه يضع تعاليمه الحكيمة لتوعية الناس نحو تغذية أفضل لتجنب مضاعفات الغذاء، فهذا القرآن الكريم يخاطب الناس ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: " المعدة بيت الداء ".
ولكي يتعلم الإنسان كيف يتغلب على هذه المشكلة، ويتدرب على التوازن والاعتدال في أكله وشربه فقد فرض عليه الصوم حيث يمتنع هو من نفسه وباختياره عن الطعام والشراب قليله وكثيره مهما كان الطعام شهيا أو كان هو جائعا.
وتستمر به هذه الفترة التدريبية لمدة شهر يتعود خلالها على التوازن ويتمرن على ضبط النفس وتنظيم الغذاء فيأكل ليعيش لا يعيش ليأكل..
ومن ناحية أخري فالصوم يتيح للجهاز الهضمي والذي يعمل باستمرار فرصة ارتياح وهدوء بعد تعب طويل يستعيد فيها نشاطه ليعود بعدها إلى العمل..
وكذلك فإن الصوم- كما يقرر الأطباء- يقضي على البؤر الصديدية التي تتكون داخل الجسم وتصب إفرازاتها السامة في الدم غير أن الإنسان قد لا يشعر بها حتى يتضاعف خطرها.. وفي الصوم عندما تقل المواد الغذائية في الجسم وتدب الأجهزة الداخلية في الاستهلاك فتحتوي تلك الخلايا وتريح الإنسان من خطرها.
ويعرض الأطباء قائمة من الأمراض التي يمكن أن يستعان بالصوم في علاجه: كاضطراب الهضم، البدانة، أمراض القلب، القلق، التوتر العصبي، البول السكري، ارتفاع ضغط الدم، تذويب الشحم الزائد…
وبالتالي، نجد كلمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ترتسم أمامنا بخط الواقع العريض: " صوموا تصحوا ".